جدول المحتويات
نشأة وتطور تشريعات التحكيم في المملكة
د. عمر الخولي : شريك أعمال شورى للمحاماة والتحكيم
يمثل التحكيم كوسيلة لفض المنازعات في المملكة العربية السعودية أهمية بالغة، ذلك أن عقود الاستثمار الضخمة التي يبرمها القطاع الخاص سواء داخل المملكة أم خارجها، تكاد لا تخلو من النص على التحكيم كوسيلة لإنهاء المنازعات التي يمكن أن تنشأ عن هذا العقد ؛ بل أن هناك عقود اقتصادية ضخمة تبرمها الحكومة السعودية مع دول أخرى تتضمن النص على شرط التحكيم . وقد ساعد على انتشار شرط التحكيم والرغبة في اللجوء إليه كوسيلة لحل المنازعات ، ما وقع خلال العقود الأخيرة من ثورة في مجال الاتصالات ، وتداخل المصالح الاقتصادية، وازدهار المشروعات الاستثمارية وحركة التجارة الدولية ، وتنامي العلاقات التجارية بين المملكة وبين الدول الصناعية على نحو جعل رؤوس الأموال والاستثمارات الخارجية تتناقل بين الدول والشركات الكبرى بصورة سريعة ومتسارعة لمواجهة احتياجات عقود التجارة الدولية ، وعقود نقل التكنولوجيا ، وعقود النقل البحري والجوي ، والتأمين، وكافة الاتفاقيات الدولية المتعلقة بالاستثمار وضماناته .
نشأة وتطور تشريعات التحكيم في السعودية
لم يكن للتحكيم عند نشأته الأولى في المملكة قانوناً متكاملاً كما هو عليه الحال الآن, وإنما جاء ميلاده على هيئة مواد ضمن ” قانون المحكمة التجارية ” (م 493 – 497) , التي تصدت لمعالجة بعض المسائل ذات الصلة بالتحكيم من حيث شكل ومضمون اتفاق التحكيم ، وتعيين المحكمين ومدة التحكيم ، وبعض الاجراءات ذات الصلة بعملية التحكيم ، وإمكانية الطعن في الحكم التحكيمي أمام المحكمة التجارية التي يعالج القانون أحكامها ، ثم ضرورة إقرار حكم التحكيم من هذه المحكمة قبل وضعه موضع التنفيذ .
أعقب ذلك صدور اللائحة التنفيذية لقانون الغرفة التجارية الصناعية والتي تضمنت عدداً من مواد خاصة بالتحكيم ( م 49 – 54 ) الذي منح التجار الحق في أن يسندوا إلى الغرفة التجارية الصناعية مهمة أن تكون حكماً لحسم ما قد يقع بينهم من منازعات تجارية .
ثم صدر قانون العمل والعمال ليجيز لأصحاب العمل وللعمال إحالة ما قد ينشأ بينهم من منازعات إلى التحكيم عوضاً عن اللجوء إلى اللجنة الابتدائية المختصة شريطة أن تقوم هذه اللجنة أولاً باعتماد اتفاقية التحكيم المبرمة بين أطراف النزاع ، وفي حال اختلافهم بشأن تعيين محكمين ، يتولى رئيس اللجنة الابتدائية المختصة تعيينهم . على أن الحكم الصادر من هيئة التحكيم لا يعد نهائي وإنما هو قابل للطعن فيه أمام “اللجنة العليا لتسوية الخلافات العمالية” ما لم يتفق أطراف النزاع مقدماً على نهائية الحكم التحكيمي . وفي كافة الأحوال يتعين تسجيل هذا الحكم أمام “اللجنة الابتدائية ” المختصة خلال أسبوع من تاريخ صدوره .
عقب ذلك صدر قانون الغرف التجارية الصناعية( جاعلاً من اختصاصات هذه الغرف الفصل في المنازعات التجارية والصناعية عن طريق التحكيم في حال اتفاق أطراف النزاع على إحالته إلى إحدى الغرف التجارية الصناعية ثم أوردت اللائحة التنفيذية لهذا القانون القواعد والاجراءات التي ينبغي اتباعها عند القيام بالتحكيم أمام أي من الغرف التجارية الصناعية .
صدور أول قانون متكامل للتحكيم في المملكة:
بعد أن أثبت الواقع العملي الحاجة الملحة لتحديث إجراءات وأسلوب التحكيم في المملكة ، لتمكينه من مجاراة التطورات المتلاحقة والمتصاعدة في مجال التجارة الدولية واتساع صورها وأعمالها ، وما استجد من تحولات في النظام الاقتصادي العالمي ، فقد صدر قانون مستقل خاص بالتحكيم في المملكة (1403هـ ) يتكون من خمس وعشرين مادة . أعقبه صدور اللائحة التنفيذية لهذا القانون والتي حوت ثمان وأربعين مادة .
وقد جاءت كل من مواد القانون ولائحته التنفيذية مبينة لأحكام التحكيم. شاملة كافة مراحله بدءاً من اتفاق التحكيم وانتهاءاً باعتماد وتنفيذ قرار هيئة التحكيم مروراً بتشكيل هيئة التحكيم وبيان اختصاصاتها وإجراءات عملية التحكيم وكيفية سيرها. وقد استمر سريان هذا القانون لمدة ثلاثة عقود من الزمان (1403- 1433هـ ) . على أن صمود أو بقاء هذا القانون هذه العقود الثلاثة ، لا يعني أنه كان قانوناً نموذجياً ، بل هو قانون أملته الحاجة الملحة والاعتبارات العملية والمطالب الخارجية التي دعت إلى اصداره مشوباً بالكثير من الضغوط والمقاومة الداخلية والاعتبارات ” الدينية ” التي حالت دون خروجه منسجماً مع قواعد الأمم المتحدة للتحكيم (اليونسترال) .
سرعان ما اظهر التطبيق العملي لأول قانون تحكيم في المملكة قدراً كبيراً من أوجه الخلل والمثالب في ذلك القانون التي كانت عاملاً فاعلاً على تنشيط التحكيم الدولي الذي كان ينعقد خارج المملكة تهرباً من أحكام ذلك القانون الذي كان يتيح للقضاء الوطني التدخل في أحكام التحكيم إلى حد يكاد يصل إلى التدخل في كافة مفاصل النزاع والحكم التحكيمي . وقد كان ذلك التدخل من لدن القضاء – والذي يمكن وصفه بأنه مصادرة على عملية التحكيم ككل – إذ كان يجعل من التحكيم وكأنما هو إحدى درجات التقاضي التي تسبق إجراءات التقاضي العادية أمام القضاء الرسمي في الدولة !! وهو الأمر الذي كان يستحث أطراف العلاقات التعاقدية على تفضيل التقاضي أمام القضاء مباشرة لتلافي التأخير الذي ينتج عن عملية التحكيم؛ بل كان ذلك التدخل القضائي يلجئ أطراف العلاقات التعاقدية من خارج المملكة إلى الإصرار على إجراء التحكيم في أحد مراكز التحكيم الدولية وليس داخل المملكة.
تحديث قانون التحكيم السعودي:
على إثر ثبوت عجز ذلك القانون عن مواكبة قواعد الأونسيترال وقوانين التحكيم الدولية ، فقد كان محلاً للمآخذ والملاحظات على عدد من الأصعدة ، فضلاً عما أسفرت عنه التجارب العملية من قصور واضح في أكثر من جانب منه ، بل أنه نال حظاً وافراً من الانتقادات التي لازمته منذ صدوره وحتى انتهاء العمل به بعد أن أسهم في رسوخ الانطباع الذي لم يزل ملقياً بظلاله على كافة التعاقدات التي يكون فيها طرفاً اجنبياً رغم قيام قانون التحكيم الحالي بحظر التدخل القضائي في وقائع أو موضوع النزاع.
بعد طول انتظار ، استجاب المنظم السعودي إلى الحاجات العملية الملحة للتغيير ومراعاة للعوامل التي فرضت نفسها على الواقع العملي ، واضطر إلى اصدار قانون التحكيم الجديد (1433هـ ) الذي راعى الكثير من مبادىء وقواعد التحكيم وفكرته الأساسية بحيث تم استنساخ الكثير من مواده من قواعد الامم المتحدة (الأونسيترال) ومن قوانين التحكيم في الدول الأخرى إلى درجة التطابق التام وهو أمر يحسب للمشرع السعودي الذي حرص على تلافي الكثير من سهام النقد التي وجهت إلى قانون التحكيم السابق (1403هـ) الذي صدر مليئاً بالثقوب والثغرات التي انعكست سلباً على قضاء التحكيم في المملكة العربية السعودية ، وعمد إلى إجراء عدداً من التعديلات الضرورية على القانون السابق بما يتفق مع متطلبات انضمام المملكة إلى منظمة التجارة العالمية ، وبما يتوافق إلى حد بعيد مع القانون النموذجي للتحكيم التجاري الدولي (الأونسيترال ومواكباً للتطورات التي طرأت في عالم التحكيم ، ومُنظماً للتحكيم المحلي والدولي، بخلاف سابقه الذي أغفل الحديث عن التحكيم الدولي . كما راعى القانون الجديد في الجانب الإجرائي معظم المبادىء العامة للتحكيم الوطني والدولي مع استمرار القيد الرئيس فيه – وفي كافة الانظمة الصادرة في المملكة – والمتمثل في عدم معارضته لأحكام الشريعة الإسلامية . وبهذا يمكن القول أن قانون التحكيم الجديد يعد نقلة نوعية من شأنها أن تسهم كثيراً في العمل العدلي والقانوني والاستثماري في المملكة العربية السعودية .
وبتاريخ 14/6 / 1435هـ المصادف لـ 14/4/2014م تم تتويج القضاء التحكيمي في المملكة بإنشاء ” المركز السعودي للتحكيم التجاري ” ليكون أول مركز للتحكيم التجاري في المملكة العربية السعودية يتولى الإشراف على إجراءات التحكيم في المنازعات التجارية والمدنية التي يتفق أطرافها على تسويتها عن طريق التحكيم . باستثناء المنازعات المتعلقة بالقضايا الإدارية والأحوال الشخصية والجزائية (الجنائية) وما لا يجوز الصلح فيه إعمالا لما ورد النص عليه في قانون التحكيم السعودي وفي قرار مجلس الوزراء المقرر لإنشاء هذا المركز.
ولا تستهدف هذه الورقة إجراء مقارنة بين القانونين ، كما أنها لا تبتغي إبراز الفوارق بين كل منهما ، ولا حتى مناقشة مزايا القانون الجديد و ايجابياته أو سلبياته ، وإنما تستهدف بيان الإشكاليات العملية التي يتعرض لها القضاء التحكيمي في المملكة حتى بعد صدور قانون التحكيم الجديد . وقبل بيان ذلك قد يكون من الملائم القاء بصيص من الضوء على الملامح العامة للقانون الجديد ومن ثم الاشكاليات العملية لقضاء التحكيم في المملكة ، و نختتم بطرح بعض المقترحات التي قد يكون وضعها موضع التنفيذ عاملاً على الحد من الاشكاليات التي سترد الإشارة إليها أملاً في النهوض بالقضاء التحكيمي في المملكة .
للمزيد حول قسم تسوية المنازعات والوسائل البديلة
المراجع
- الصادر بالأمر العالي رقم (32) في 15/1/1350هـ.
- الصادر عام 1365هـ .
- الصادر عام 1389ه .
- الصادر بالمرسوم الملكي رقم (م/6) وتاريخ 30 /4/1400ه .
- الفقرة (ح) من المادة الخامسة من القانون .
- الصادرة بقرار وزير التجارة رقم (1871) وتاريخ 22/5/1401 هـ
- صدر بالمرسوم الملكي رقم (م/46) وتاريخ 12/7/1403ه . و تم نشره في جريدة أم القرى ، العدد (2969) الصادر يوم الجمعة الموافق 22/8/1403هـ .
- صدرت بقرار مجلس الوزراء رقم 7/2021/ م في 8/9/1405هـ . و نشرت في جريدة أم القرى ، العدد ( 3069 )الصادر يوم الجمعة الموافق 10/10/1405هـ .
- بتاريخ 24/05/1433هـ الموافق 16/04/2012م، صدر قانون التحكيم بموجب المرسوم الملكي رقم (م/34)، ونُشر بجريدة أم القرى (الجريدة الرسمية) في عددها رقم (4413) وتاريخ 18/07/1433هـ الموافق 08/06/2012م . وقد بدأ سريانه اعتبارا من يوم الأحــد 18/08/1433هـ الموافق 08/07/2012م .
- لعام 1985مع التعديلات التي أدخلت عليه في عام 2006م.
- إعمالا لقرار مجلس الوزراء رقم (257) وتاريخ 14/6/1435هـ .